شخصيا،
أكثر ما كان يجذبني إلى القصائد المغناة من طرف شيوخ الشعبي خاصة و
الملحون المغربي أيضا هو اللغة المستعملة في النظم و خاصة تلك الكلمات و
العبارات الغريبة، الجميلة الإيقاع، التي تترك للخيال مجالا واسعا، و التي
تجعلك دائم التساؤل عن مغزاها كما تصادفك أبيات في بعض المرات تجعلك مندهشا
أمام هذا الشاعر أو ذاك و ذلك لسعة إطلاعه، فكما يعلم الجميع فكثير من
الشعراء المعروفين كانو ذوي مناصب كالقضاة (المنداسي) أو ذوي نسب شريف
(قدور العلمي) وعموما تميزوا بثقافة عالية بالمقارنة مع جيلهم و محيطهم،
كما لم يمنع هذا كله من أن نجد شعراء مثقفين و لكنهم أصحاب لهو و مجون بل
تعدوا ذلك إلى أشياء أخطر لكنها أمور كانت تبدو عادية في عصرهم.
في
هذا الموضوع أريد تسليط الضوء على نوع من الشعراء تميزوا عن غيرهم بخاصية
فريدة ، هؤلاء شعراء تعدت سعة إطلاعهم حد الوقوع في المحضور ، إنهم الشعراء
السحرة أو السحرة الشعراء و سنأخد عن هذا مثالين، الأول بالطبع وبدون
منازع الشاعر الساحر مبارك السوسي الذي تكاد لا تخلو قصائده من إشارات
وإيحاءات في هذا الشأن و قصيدته (يوم الجمعة) خير مثال على ذلك أما الثاني
فهو المكي بن القرشي و قصيدته الرائعة (الحراز) و هذه الأخيرة أكبر شاهد
على ثقافة ذلك العصر إذ نجد فيها بعض التفصيل على عكس قصائد أخرى.
تجدر
الإشارة أولا إلى أن السحر هو من أقدم الممارسات التي عرفتها البشرية ظهر
قديما وانتشر في كامل بقاع الأرض لكن تربته الخصبة هي دائما .. الجهل ..
فأينما كان الجهل كان السحر بجانبه و لذلك فإفريقيا السوداء مثلا عرفت
بأقوى أنواع السحر على الإطلاق كما عرف اليهود أيضا بأشياء يندى لها
الجبين، وببساطة فالسحر هو تسخير قوى فوق طبيعية غير مرئية لخدمة شخص ما
يسمى الساحر أي أن الساحر يأتي بالخوارق فكيف يتم له ذلك من دون الغير ، ما
المقابل ؟
لا أخفيكم سرا فقد كان في حوزتي كتاب قديم جدا لتعليم
السحر، تحصلت عليه من مكان لم أضن يوما أنني سأجد فيه كتابا مهما كان نوعه،
فما بالك بكتاب كهذا يعتبر في الحقيقة مخطوطا ثمينا، هذا من جهة و من جهة
أخرى لم أستطع الإحتفاظ به لهول ما فيه من فأحرقته بعد أن قرأته جيدا و
العجيب أيضا أن مؤلف هذا الكتاب و الذي عاش في القرن السابع عشر و المكنى
(الحبر الأعظم) كان شاعرا أيضا و له قصائد في قلب الكتاب هي سحر في حد
ذاتها كي تفهمها يلزمك تعلم جدول معين لتفسير الحروف و الرموز لكنك بعد أن
تفهمها ستندم على ذلك فتعالى الله عما يشركون .
يقول السي مبارك في قصيدته (يوم الجمعة) أو (بنات فاس) :
(
كذاك عملت جدول، ملوك التميمة، في رياضي قايمين ديما، خفيفة، شادة و بوها
عيروض، عقيصة مع دمريود، حتى شيهوب و الحكيمة عقلة، قبايل الجنون بجملة،
دورتهم بالبستان على كل جيه، و خرجت لفم الباب كـ نراعي لوصول لباهيات )
يقول
: عملت جدول ، الجدول حسب الكتاب المذكور هو عبارة عن شكل يشبه (الكلمات
المتقاطعة) تماما يملؤه الساحر بحروف و رموز (طلاسم) عموديا و أفقيا، فيصبح
للجدول قوة لتسخير الجان و الأسماء المذكورة أعلاه كعيروض و عقيصة و
دمريود .. ما هي إلا أسماء هؤلاء المسخرين لخدمة سيدهم حين يصل ضيوفه و
هناك أنواع كثيرة من الجداول كل حسب غرض التسخير و هناك أشكال أخرى كالخاتم
و النجمة أيضا
و هذا شكل من أشكال الجداول ، انقر على الرابط للإطلاع عليه:
للإشارة
فقط فقصة السوسي خيالية تماما أي أنها لم تحدث فهو شاعر لا يهمه إلى
قصيدته ، يريدها أن تحمل من المعنى و التشويق ما يجعلها تنافس قصائد لشعراء
آخرين لكنه من أين له الدراية بهاته الأشياء ، هذا هو السؤال ، صراحة يبقى
الإنسان مندهشا ، هل كان بن السوسي ساحرا ؟ هل مارس السحر أم نقل فقط كما
يفعل الشعراء للتفاخر ، يجدر التذكير بأنهم كانو يسمون السحر بـ (الحكمة) و
الساحر (الفقيه) أو (الطالب)
أما قصيدة الحراز و هي القصيدة التي
مهما سنقول عنها لن نوفيها حقها فهي رائعة أدبية ستبقى خالدة مدى الدهر
تأثر صاحبها حتما برواية ألف ليلة و ليلة و نسج قصيدته على منوالها
فالحراز
أصلا تعني الساحر و هذا الساحر قدم من الحجاز أي (السعودية الآن) و كان
متمكنا كما وصفه الشاعر، و كان هذا الحراز مولعا بإقتناء الجواري الحسناوات
و المغنيات صاحبات الظرف و الصنائع خاصة يبحث عنهن أينما كن.
(قديما
كانت تجارة العبيد و الجواري أكبر تجارة في ذلك العصر ووصل الأمر حد أنه
كانت توجد شبه شركات تعنى بهاته الأمور فيشترون الجواري و الغلمان في سن
مبكرة من جميع أصقاع العالم ليقوموا بعدها بتربيتهن وتعليمهن في أماكن
مخصصة لذلك فيجلبون لذلك المعلمين و الشيوخ و كانو يعتنون بتربية الجواري
خاصة و الجميلات منهن على وجه التحديد فيعلمونهن على مدى عشرة إلى خمسة
عشرة سنة كل أنواع العلوم و الآداب و الشعر و الغناء فنسمع مثلا عن جارية
تحفظ عشرة آلاف صوت أبياتا بألحانها و أخرى تحفظ خمسة آلاف من القصص و
الغرائب و هكذا لتباع بعدها بأبهظ الأثمان فتسوق إلى القصور و دور الأمراء و
الأغنياء)
و الجارية معشوقة الشاعر في هذه القصيدة كانت من هذا
النوع و أكثر فقد كانت ساحرة و يتجلى هذا في الأبيات الأخيرة من القصيدة أو
القصة عندما يئس العشيق من دخول القصر بعد عديد المحاولات فعاد إلى هناك
لكن وحده هذه المرة بدون حيلة و ما لا يعلمه الكثير أن العشيق قبل أن تباع
معشوقته (عويشة) كان معلمها و شيخها الذي أدبها و علمها الغناء و الشعر و
العزف ووقع في حبها أيضا.
قلنا أنه عاد إلى القصر لكن على طبيعته أي
شيخ مغني يحمل آلته بيده و صدح يغني بجانب القصر حتى سمعه الحجازي و سمعته
محبوبته أيضا من داخل القصر فأصرت على سيدها أن يدخله ويبدو أنها كانت
صاحبة أمر عليه فخضع وأطاع ليدخل بعدها شيخنا إلى القصر و يلتقي بمحبوبته و
الحراز في مجلس واحد فكان الشيخ يغني و يشرح لمحبوبته ما حصل له مع
الحجازي لكن في قالب الغناء كي لا يتفطن الحراز حتى عرفت الجارية ما حل
بشيخها من عذاب على يد سيدها الجديد فغضبت لذلك !!
و هنا بالتحديد
تتحول المعشوقة (عويشة) من مجرد جارية جميلة مغنية إلى امرأة مخيفة صاحبة
قدرة فعزمت على استعمال علمها و دهائها للإنتقام من هذا الغريب المغرور
فمباشرة بعد أن إنتهى شيخها من نوبته قامت عويشة إلى عودها فسوته و بدأت
تغني وتتودد إلى الحراز لكنها كانت في الحقيقة عازمة على شيء خطير !!
غنت
عويشة لسيدها واختارت أعذب الألحان إلى أن أحست بأن سيدها طاب و قر نفسا
فعمدت إلى جيبه و سلت منه بعض الأشياء ، خاتم و طاسة و قضيب !!! و لكن ما
هاته الأشياء ؟
أما الخاتم فقد سبق ذكره آنفا لكن الطاسة و القضيب
فهذه قصة أخرى ففي نفس الكتاب الذي حدثتكم عنه يوجد باب بعنوان : تطويع
الجان، أما كيف تستعمل هاته الأشياء فيقال أن القضيب يشترط أن يكون من شجر
الرمان يكتب عليه أيضا بعض الطلاسم كما يكتب على الطاسة نفس الشيء ثم يتم
ضرب الطاسة بذلك القضيب فيقع الضرب كله على الجني المذكور إسمه في قلب
الطلاسم و يشتد الضرب حتى يخضع الجني و يصبح في خدمة حامل القضيب ينفذ كل
ما يأمره به .
و هكذا استلت الجارية الأدوات من جيب الحراز و قامت
سريعا و طارت إلى ركن من الغرفة واستعملت ما في يديها لتحوله إلى قرد يقفز
هنا و هناك حتى ترجاها شيخها أن تعفو عنه فضربت الطاسة مجددا فخرج عفريت
أزرق أمرته بأن يحمل الحراز و يعيده إلى بلاده و أمه لتعلمه ما هو أشد من
السحر ألا وهو كيد النساء إذ يقول الشاعر :
(حتى بغات و رشق ليها ،
سوات عودها في إيديها و بدات كـ تخبل و تطيح عليه بالتواشي و تطيب فيه
باللطافة و رمات يدها لجيبه و جبدت الخاتم و الطاسة و القضيب و طارت لذيك
الجيهة يا فهيم، قالت هذا هو محبوب خاطري و انت عذبتيه آ الظالم كي نعمل
بيك حكمتك حصلت في يديّا ، دابا و لّي قرد زيد فرجنا بالتنقاز ، و شطحاتو
بقضيب تاز)
إذن فقد تحولت الجارية الجميلة إلى ساحرة متمكنة و بما
أن القصة برمتها محض خيال إذ يصرح الشاعر في آخر القصيدة فيقول : (ما شفت
شي غزالة و لا تضاربت مع حراز) أي لا وجود للجارية ولا للحراز و ما هي إلا
أفكار شاعرنا
في
الأخير هذا مجرد نص أدبي للتسلية ، لا أريد إتهام أحد بل بالعكس يحق لنا أن
نفخر بمثل هؤلاء الشعراء فهم بمثابة شهداء على جيلهم نقلوا لنا في قلب
قصائدهم الكثير مما لا نعرفه عن أهل ذلك الزمان و ربما كانت مثل هذه الأمور
شائعة عند الناس في ذلك الزمان يستعملون مثلها للتعبير فقط و الفخر فيما
بينهم فلا تتعدى المسألة ذلك الحد و لمن يريد التعمق في الأمر فليبحث عن
علاقة التصوف في المغرب الكبير بالسحر خاصة في عهد المرابطين و من منا لا
يعرف بأنه في بلادنا و إلى وقت قريب كانت زيارة الولي الفلاني و إقتناء
الأحجبة و الحروز شيئا عاديا جدا يمارسه حتى المتعلمون من الناس و قد خفتت
مثل هاته المظاهر و الحمد لله .
هذا إجتهاد شخصي منقول من موقع
http://www.dzforums.org/index.php/topic,123844.new.html#new
Mileuvien
إرسال تعليق